Friday, February 18, 2011

Transitional Freedoms الحريات الإنتقالية

همس في أذني صديق أجنبي في أحد ورش العمل الصحافية قائلا : يا أخي أنتم بلد غني بالصراعات و توجد فيه عشرات المؤسسات الصحافية لماذا لا تستفيدون من هذا الوضع الجميل و تنظموا عشرات الكورسات عن التغطية الإعلامية في مناطق الصراعات ، يمكنكم أن تحتكروا هذا الصنف من الدورات التدريبية و تصبح شهادتكم أقوى شهادة في أوربا و أمريكا ! أعجبتني طريقته البراغماتية في التفكير و زدت عليه لماذا لا نختصر الطريق و نتبتدع علما جديدا اسمه "السياحة الصحافية " ؟
جوهر هذه الطُرَف هو وجود العطايا في ثنايا البلايا ، و لو دققنا في تناقضاتنا في مجال الحريات لاكتشفنا أننا نضيع أكبر الفرص لنكون أفضل أساتذة لأفريقيا و العالم الثالث من واقع تجاربنا و ثقافتنا ، نعم إننا نضيع هذه الفرصة من أجل أن نكون أفشل تلامذة للغربيين من واقع تجاربهم هم و معاييرهم هم .
نحن الدولة الوحيدة التي يستقبل فيها الصحافي رقيبه "المسئول الأمني" في مناسبة إجتماعية و يقبل منه هدية أمام الناس و لو حاول أن يرفض لأعتبره الناس فظا و جلفا . و كذلك يمكن أن يتلقى هذا الرقيب القامع للحريات التنهئة و العزاء من الصحافي مع احتمال أن تتداخل "الونسة" و يشن فيها الصحافي هجمة شرسة على المسئول الأمني في نقد الحكومة و اجهزتها دون أي رحمة أو شفقة ، بل و بمشاركة الحضور و رضاهم ، و لو جرؤ المسئول مهما بلغت رتبته النظامية على الإسائة أو الإنتقام لصار ممقوتا و سيء الأدب مع ضيوفه .
لدي طرح جديد بمسمى الحريات الإنتقالية Transitional Freedoms، فقد وجدت مصطلحات موازية في العدالة الإنتقالية و إلى حد ما الديموقراطية الإنتقالية ، و لكن بالتحديد قضية الحريات لم تحظى بدراسة هذا النوع المعالجة فيها على وجه التفصيل و لا بأس أن هذا التوجه من التفكير غربي فهو إنساني في المقام الأول و نحن لم نرفض الأنماط الأخرى بتلك بذريعة أنها غربية بل بحسبان أن تطبيقاتها تنتمي لواقعهم المختلف عن واقعنا ، و قد تفاديت إنشاء مصطلح جديد و ذلك حتى لا تضيع فرصة التواصل الفوري مع شركاء دوليين يؤمنون بمفهوم الإنتقال في تنمية الديموقراطية .
لدينا تجارب عديدة في الصراع من أجل الحريات الصحافية في السودان و في عهد الإنقاذ بالذات ، و هذه التجارب أحيانا تفشل بسبب خضوع عدد من الناشطين السودانيين لمفاهيم غربية مثالية في الحريات و حقوق الإنسان ، نعم خضوع كامل و إستسلام و إذعان لتوجهات بعض المنظمات و الدوائر الغربية لمحاكمة السودان بمعايير دول العالم الصناعي الأول الآن و بلا تمهل .
لا أريد أن اصف إذعانهم بأنه إذعان لأجندة أو خطط تآمرية على السودان و إن كان هذا البعد ليس غائبا من الطرف الأجنبي حتى و إن غاب من الطرف السوداني . فلنقل أنه إذعان لمفاهيم و هذا يكفي جدا للمناقشة ، و يمكن – في وجود ضامن و وسيط مثل الإتحاد العام للصحافيين السودانيين - أن يؤدي لطي صفحة العدواة و التوتر و فتح صفحة بيضاء ناصعة و جديدة ، تزول منها مفردات العمالة و الإرتزاق و الخيانة كما تزول مفردات الفاشية و القمع و التعذيب .
هل يمكن للنخب السودانية ابرام صفقة بينها و بين الحكومة ؟ خاصة في مجال الحريات ؟ هل يمكن إدارة حوار بناء نتوصل بعده لصيغة جديدة من التفاهم ؟ الإجابة عندي قطعا هي نعم . فقط ما نريده هو أن تتزحزح هذه النخب عن مفهومها الشائخ و المثالي عن حريات نظرية غير قابلة للتطبيق حاليا . هذا المفهوم الذي يوهم الجماهير بأن الأقطار الأفريقية ستقفز في مجال الحريات إلى مستوى الولايات المتحدة الأمريكية في لحظة واحدة ، كأنما عبور الأطلنطي مثله مثل عبور مجرى حوض تصريف خارج حمّام بلدي في زقاق شعبي .
أنا أعتقد أن المسألة تحتاج إلى تفصيل أوسع ، فقضايا الخدمات العامة تختلف عن قضايا الأمن الوطني و سيادة الدولة . و الدعوة لإقالة مسئول محلي في ملف فساد أو تقصير في حق الخدمات المقدمة للمواطنين أو إدارة حملة جهيرة في هذا الأمر لا يمكن أن تكون مثل الحديث عن انهيار معنويات الجيش السوداني مثلما كتب ممثل الأمم المتحدة يوما في مدونته الإلكترونية و طرد بعدها مهما كانت كلفة ذلك دوليا فلم يكن للحكومة أي خيار آخر .
أعتقد أنه هنالك مستويات من النقد لا يجوز بتاتا أن تتدخل السلطات فيها بأي شكل من أشكال القمع تحديد الحريات و لو حدث فإن المطلب الصحافي هو أن قيادة الدولة ملزمة بإحالة حماة الفساد إلى تحقيق فوري و المساس بالحريات حينها يستدعي التصعيد دون أي تردد ، و لو أمعنا النظر في هذا الأمر لوجدنا الحالة في هذا الجانب أفضل و لتأكدنا أن قيادة الدولة ذاتها ترغب أحيانا في أن تقوم الصحافة بدور عسير عليها و تكفيها مؤونة التخلص من المهددات الداخلية للنظام و لكن للأسف علاقات بعض الناشطين السودانيين مع دوائر معادية للسودان تجعل من الفاسد شخص جدير بالحماية الوطنية رغم أنف الحكومة ذاتها ، و عندها يكون الناشط الصحافي و الحقوقي السوداني قد خدم الإستعمار الأجنبي و الفساد الوطني و لم يخدم مهنته و لا بلده و لا مواطنيه و سيشهد عليه التاريخ بأنه كان مجرد مفردة هزيلة في سياق قوي !
المستويات الأخرى و التي تتداخل فيها موضوعات الأمن الوطني بالسياسات العامة ، لا تنتظر فيها الحكومة رأي أحد و تشرع فورا في تكميم الأفواه و إخراس الألسن ، بل قد تتعمد عدم اللجوء للقضاء حتى لا توحي للمتهمين بأنها ند لهم كتفا بكتف أمام القضاء الطبيعي مع أن القضاء قد يفضي إلى عقوبة أشد من إعتقال اسبوع أو شهربالتأكيد ، و لكن الغرض هاهنا السيادة لا العدالة !
عندما يحدث مقدار من (القمع) هنا ماذا يكون الحل ؟ ترديد المحفوظات و الشعارات الغربية عن سيادة القانون ؟ هل الحل أن نشين سمعة الحكومة و ندخل في تحد عريض معها ؟ أن نضغط عليها بالطرف الأجنبي و نطوقها بالتقارير المرسلة من داخل السودان إلى خارجه ؟ مع زيادات في الأرقام و الوقائع أحيانا ؟ و ماذا لو أدى هذا إلى مزيد من التصلب في الموقف الحكومي أو الحزبي العقائدي المساند له ؟ و ماذا لو أدى إلى ترجيح كفة المستعمر من جديد ؟ و ماذا لو غضت الدول الغربية الطرف عن التفلتات و الخروقات في نهاية المطاف بعد استخدامها ككروت ضغط سياسية في مفاوضات تطبيع تبدأ من مراكز حقوق إنسان و المعتقلات و تنتهي في شركات نفط و المنتجعات الدولية !
بدلا من جعل الصحافي السوداني حطبا لنار صراعات الكبار ، لماذا لا نقسم الحريات إلى مستويات منها ما لا يمكن السكوت علي المساس به ؟ و منها ما يمكن أن نعيد تفسير ظاهرة القمع فيه إلى ظاهرة أخرى ؟ و بذلك يكون الواجب أسهل و أدق .
أنا أدعو و بكل صراحة إلى قسمة الظلم و القمع إلى قسمين ، قسم التعامل معه معجل و مباشر و (أفطح) و قسم آخر التعامل معه مؤجل و غير مباشر و (عميق) .
دعوتي لتقليل الظلم و تخفيض القمع لا تعني الإعتراف أو الرضا بالجزء المتبقي و المختلف حوله ، دعونا نسميه "تجاوز السلطات في حقها في الضبط" و هو أمر يستدعي تقدير الضرر و تعويض المتضررين ، كما يستدعي رد الإعتبار للحريات العامة و ذلك بدعم المؤسسات الإعلامية و المراكز المدنية و المواسم الثقافية و المؤلفات و الأعمال الفكرية ، و هذا ما أسميه بالحريات الإنتقالية . و فحواه هي اهمال الصحافيين و الناشطين الحقوقيين المفاهيم الغربية لصالح تسوية ديموقراطية يتراضون عليها محليا ، و في المقابل تتقدم الحكومة خطوات أكبر نحوهم و نحو قضايا الحريات و تظهر بعدها معالم مجتمع مدني سوداني فيه مؤسسات وطنية قوية و مستقرة و قادرة على التغيير .
حتى المرجعيات الغربية ذاتها تقبل مبدأ التدرج فإذا وافق الفضلاء المثقفون و الناشطون على نظرية التدرج و أقروا بأنه لا يمكن أن يهبط القمر من السماء فجأة و بلا مقدمات فالسؤال يعود تلقائيا لهم : و ماذا نحن صانعون في هذه الفترة الإنتقالية ؟ ما هي القواعد التي تحكمنا ؟ هل نترك هذه الفترة للشد و الجذب و تصفية الحسابات السياسية المحلية و الإستقطاب الإستخباري الدولي ؟ أم نعود مجددا للتحاكم للحريات المثالية الكاملة وفق أكثر المفاهيم حداثة في العالم الصناعي الأول ؟ بالطبع لا و لسبب بسيط للغاية لأننا لا يمكن أن نحاكم الحاضر بالمستقبل و المعلوم بالمجهول . هؤلاء المثاليون إذا هم حراس هذه الفجوة المذهلة بين الأحلام السعيدة و الوسادة الصلبة القاسية التي نضع عليها رأسنا و نحن نمني أنفسنا بغفوة وسط ضوضاء صاخبة .
إنني أقدم الدعوة لمراكز المجتمع السوداني للنهوض بمبدأ الحريات الإنتقالية و توفير المناخ اللازم لنموه و إثراء النقاش الإيجابي حوله ، و ربما ننجح في تقديم نماذج في إنتقال بعض المؤسسات و المراكز من الخط الأحمر للبرتقالي و هذه وحده إنجاز كبير

No comments:

Post a Comment